تاريخ الكنيسة السريانية الكاثوليكية الأنطاكية – الجزء الثاني
- البطريرك اغناطيوس بطرس السادس شهبادين ( 1678 – 1702 )
هو بطرس ابن الشماس عبد الاحد بن سفر شاهبادين، ابصر النور في الرها، وترهب في دير مار ابحاي، وسيم كاهنا 1658، وفي سنة 1662 رقاه خاله البطريرك عبد المسيح الى مطرانية القدس، وبعد سنة ارسلة البطريرك الى الملبار في الهند حيث نشر المذهب المونوفيزي واكتسب له العديد من المؤمنين، وبعدها عاد الى كرسيه، حيث كانت مطرانيته مثّقلة بالديون، فقصد حلب لغرض جمع التبرعات وهنالك التقى البطريرك الكاثوليكي اخيجان، وانضم الى الوحدة مع روما. وما ان تفوى البطريرك اخيجان بطريرك السريان الكاثوليك، حتى اسرع البطريرك عبد المسيح واحتل الكرسي البطريركي في حلب. وحاول عبد المسيح ارضاء الكاثوليك والمونوفيزيين، غير ان الكاثوليك كرهوا رئاءه ورفضوه، ودعوا المطران بطرس الى ان يأتي ويستلم الكرسي البطريركي كما اوصى البطريرك الراحل قبل وفاته، ولكن المرض داهم بطرس وأخّر مجيئه الى حلب.
ارتبك الكاثوليك على الواقع الأليم الذي حل بهم، عندما جلس البطريرك عبد المسيح على الكرسي البطريركي، غير ان الكاثوليك لم يقفوا متفرجين فقد اوفدوا على الفور راهبًا كبوشيًا الة العاصمة ليحصل على البراءة من الباب العالي، وراهبًا يسوعيًا الى روما وفرنسا ليستحصل على در التثبيت من الحبر الأعظم وعلى مساعدات مالية من الملك لويس الرابع عشر ملك فرنسا، فنال الأول البراءة السلطانية، أما الثاني فقد تاخر على استجابة ملتمسه، وبعدما استلم البطريرك بطرس البراء السلطانية عزل خاله البطريرك عبد المسيح من الكنيسة والذي هرب الى ديار بكر. اما ممثله بشارة دبك الذي بقى في الكنيسة فقد اعلن ايمانه الكاثوليكي وانتمى الى الوحدة وادى الطاعة للبطريرك الجديد[1].
في 2 نيسان 1678 اجتمع في كنيسة حلب 5 اساقفة وهم: غريغوريوس يشوع مطران اورشليم و غريغوريوس بطرس شاهبادين مطران الرها وديونوسيوس رزق الله امين خان مطران حلب، وغريغوريوس يوحنا مطران دمشق وقرلس بشارة مطران حمص، وانتخبوا مطران الرها بطريركًا للكنيسة السريانية، واحتفلوا بطقس التنصيب بحضور جبرائيل بلوازي مطران الموارنة ومطرانين ارمنيين[2]. ورسم البطريرك الجديد ثلاثة اساقفة لأبرشيات القدس وحلب ونينوى، وكتب رسالة ضمَّنها صورة معتقده وارسلها الى البابا[3]. وفي 12 حزيران 1680 منحه البابا انوشنيسيوس الحادي عشر درع التثبيت.
البطريرك الجديد لقيَّ صعوبات ومشاكل من خاله البطريرك عبد المسيح، حيث كان البطريرك الاخير قد استحصل على فرمان من الوالي يتيح له ارجاع كنيسة حلب، وهكذا عاد الى حلب واخذ كنيسة حلب وطرد البطريرك بطرس منها، ولكن البطريرك بطرس لم يقف ساكتا فقد استحصل على فرمان اخر وبمساعدة القنصل الفرنسي وارجع كنيسة حلب، وبدأ برسامة كهنة واساقفة[4].
تتابعت على البطريرك الانطاكي صنوف من الكوارث والاهوال، فأضطر الى ان ينهزم من حلب سنة 1690 الى دير قنوبين وحل ضيفًا مدة سنتين على البطريرك اسطفان الدويهي، واثناء اقامته في لبنان انتهز الفرصة ونزل وتفقد ابناءه في طرابلس وزودهم بنصائحه الابوية. ومن لبنان كتب البطريرك الى المفريان اسحق جبير للذهاب الى قسطنطينية ليعالج لدى السفارة الفرنسية قضية كنيسة حلب التي كان يتنازع عليها السريان الكاثوليك والسريان غير الكاثوليك، وبعدها فاز المفريان من السلطان احمد الثاني بفرمان تقررت فيه اعادة الكنيسة الى السريان الكاثوليك ورجع البطريرك من لبنان الى حلب. في 19 اذار 1796 توجّه البطريرك الى روما مع مطران اورشليم، فرّحب به الحبر الروماني البابا انوكنتيوس الثاني عشر وعانقه معانقة اخوّية، حيث احتفل البابا مع البطريرك في القداس بعيد الرسولين بطرس وبولس[5].
في السنة 1699 كتب البابا الى ليوبلد الاوّل امبراطور النمسا ان يضيف الى شروط الصلح بينه وبين السلطان مصطفى الثاني اعادة البطريرك بطرس الى كرسيّه. فلبى الامبراطور طلب الحبر الاعظم وكتب الى البطريرك السرياني يستدعيه الى فينّا عاصمة سلطنته، وبشّره انه اشترط في معاهدة كرلوفتس المعقودة في 26 كانون الثاني 1699 ان يعود الى حلب كرسي ابرشيته ليستانف رعاية ابناء ملته. وما كاد يصل البطريرك وحاشيته الى حلب حتى اعاد خصومه الكرّة فوثبوا عليه في الكنيسة، وجدّدوا الشكوى عليه امام القاضي مدّعين انه عدّو الدولة بدليل ذهابه الى دار الخلافة مع سفير النمسا، فعزله القاضي والقاه في سجن ضيّق مظلم عند باب قنّسرين وألقى معه مطران حلب وسبعة من الكهنة. وبعدما مكثوا في السجن استدعاهم القاضي وامر ان يُضرب كل منهم ثمانين ضربة بالعصي، ظل البطريرك والمطران وسائر الأسى في السجن ثمانين يومًا، وفي 12 تشرين الثاني وصلت الأوامر من العاصمة بنفيهم الى قلعة اطنة، وسيقوا الى الاسكندرونة سوقًا عنيفًا مدة ثلاثة ايام، ولما خارت قوى البطريرك اركبوه بغلا واوثقوه ومددوه على بطنه وجعلوا رأسه فوق ذيل البهيم. ولمّا وصلوا الى القلعة وبعد ساعتين توفيّ المطران، اما البطريرك والكهنة فأودعوا في سجن مدلهم وقد رُبطت اعناقهم بحبل واحد وكأنهم من اعظم المجرمين، وقضوا يام مليئة بالعذاء ولكنهم كانوا يقضون النهاء بالصلاة والتقشف والصبر[6].
وصلت تلك الاخبار الى ملك فرنسا فتألم لها غاية الالم، وكتب بخط يده الى سفيره في فيربول في قسطنطينية يقول ” ارى ان الكاثوليكيين يتعذبون في تركيا….”، ثم كتب مرارا بواسطة رئيس وزرائه الى السفير المومأ اليه ليقوم بنفقات الاسرى، وطلب منه ان يسعى لتلطيف شدائدهم اذا تعذر اطلاق سبيلهم ويفرغ الجهود خصوصًا في انقاذ البطريرك وارساله الى فرنسا. وفي هذه الاثناء كانت قوى البطريرك المغبوط تهزل وجسمه ينحل شيئًا فشيئّا حتى مساء 4 اذار 1702 فقدّم له حارس القلعة فنجان قهوة دافئ فيها السمّ سرًا، شعر البطريرك بدنوا اجله، فأستدعى ابناءه الكهنة الاسرى واوصاهم وصيته الاخيرة محرضًا اياهم على الصبر والثبات، ثم فاضت روحه بيد خالقها، وسيع جثمانه في كنيسة القديس اسطيفانوس وهناك صلى عليه السيد بطرس جاثليق الأرمن مع مطارنته وكهنته[7].
بعد وفاة البطريرك بطرس شاهبادين، عقد الكهنة السبعة المنفيون في قلعة اطنة مجمعًا سريًا انتخبوا فيه المفريان باسيليوس اسحق[8] بطريركًا، وبعثوا بصكّ الانتخاب الى البابا انوكنتيوس الثالث عشر، فأيد الحبر الروماني انتخابهم في 16 آب 1704 وارسل البراءة الرسولية الى السفير الفرنسي دي فريول في قسطنطينية. واوعز ان يسلمها الى المفريان اسحق الذي كان مقيمًا عنده في قصر السفارة. ثم ان البابا حرّض السفير ان يستحصل للبطريرك فرمانًا سلطانيًا بتأييد المفريان المنتخب للبطريركية. لكن المفريان ابى قبول هذه الرتبة الرفيعة لأسباب ولدواعٍ سياسية، ففوّض اليه البابا ان يقوم بسياسة المّلة وتدبير شؤونها[9].
في مطلع القرن الثامن عشر توجهّه مجموعة من الشبان السريان الى لبنان، وما ان وصلوا الى الكرسي البطريركي الماروني قابلوا البطريرك يعقوب عوّاد (1705–1733) وطلبوا منه محلاّ في جبة بشري ليبنوا ديرًا ليسكنون فيه. فقال لهم البطريرك” ان الاقامة في جبة بشري صعبة عليكم لأنها قريبة من حاكم طرابلس، فالأجدر ان تقصدوا الشبانية…..”. فأنطلق الشبان الى الشبانية وبنوا لهم ديرًا سموه دير مار افرام الرغم، وبعد الانتهاء من البناء كتبوا الى احبار الأمة في روما وبشروهم بأنتهاء عمارة الدير وطلبوا حضور احدهم ليرقي الرهبان الى الدرجة الكهنوتية[10].
- البطريرك ميخائيل الثالث جروة ( 1731 – 1757 )
ابصر النور في حلب 23 كانون الثاني 1731 ، وكان له اربعة اخوة، واتقن ميخائيل القراءة والكتابة باللغتين السريانية والعربية وجعل يتعاطى التجارة مع ابيه.
وفي السنة 1744 رًقيَّ ميخائيل الى رتبة شماس انجيلي بوضع يد البطريرك كوركيس الرهاوي ( 1744 – 1768 )، وجهه البطريرك الى الرها ليُعلم الفتيان في مدرستها. وفي السنة1757 ارتسم كاهنا وبدأ يحتمل الاضطهادات المختلفة وذلك بسبب حبه للإيمان الكاثوليكي، ارتُسم اسقفًا بالتهديد والتخويف وذلك بحسب قوله “البطريرك صيرني بالتهديد والتخويف اسقفًا على حلب وامرني ان اعود الى ابرشيتي، غير ان بعد رجوعي بأيام قليلة مات هذا البطريرك، وخلفه البطريرك كوركيس الموصلي، فجعل يضطهدني بالاكثر وقد سبب لي اتعابًا ومشقات وخسائر وافرة ، وبعد ذلك حصلت لي الفرصة عدت الى حلب منهزما في كانون الاول 1774، وذهبت الى بيت ابي وهناك تلوت بغير تأخير صورة الايمان الكاثوليكي بين يدي السيد اغناطيوس كربوس مطران الروم الكاثوليك في 16 كانون الاول بحضور الاب انطوان رئيس الكبوشيين وجملة من الشعب والاكليروس، وبعد هذا حررت حالا رسائل توضح خضوعي للكرسي الرسولي، وارسلتها مع صورة ايماني وامضيتها بامضائي وختمي بحسب عوائد الاساقفة الشرقيين، وجاءني من الاب الاقدس البابا بيوس السادي التولية الرسولية والانعامات الحبرية ذات القوة والسلطان والشركة المقدسة “[11]
في سنة 1772 توجه المطران ميخائيل جروة لمقابلة البطريرك الارثدوكسي جرجس الثالث في دير الزعفران، وقد احتجزه البطريرك في دير الزعفران نحو اربع سنين وهدده بالسجن، وضايق رعاياه في حلب، وزج العديد من الكهنة في السجن. وفي تلك الظروف وصلت من البابا اقليميس الرابع عشر بتاريخ 1773 رسالة الى المطران ميخائيل جروة، فيها يوضح المعتقد القويم ويحرضه على الاعتصام به، وفي سنة 1775 كتب رسالة الى الكرسي الرسولي يُبدي له خضوعه التام. وجاء تأييده من روما مع حلّة حبرية وصليب وخاتم وتاج.
وفي تلك الغضون، كانت حركة الوحدة تشقُّ طريقها وسط صعوبات جمة في قوةقوش والموصل، وكان يتزعم هذه الحركة في قرةقوشالقس يوحنا الكاتب.، وفي سنة 1776 وجّه المطران جروة رسالة الى مؤمني الموصل وقرةقوش فيها يشرح لهم المعتقد القويم، وكان تأثير الرسالة كبيرًا، وقد شجع الكثيرون على المجاهرة بالايمان الكاثوليكي.
وفي ايار سنة 2778 صدر امر عن روما بتفويض المطران ميخائيل جروة لرعاية المؤمنين في بلاد مابين النهرين كلها، الى ان يتم تنصيب بطريرك واساقفة للطائفة، وفي هذه الاثناء نفيًّ المطران ميخائيل وكهنته ووجهاء شعبه، واطلق من بعدها سراحهم بعد ان دفعوا غرامة باهظة[12].
بعد وفاة البطريرك اغناطيوس جرجس الرابع، وجّهت الجماعات السريانية من ماردين وضواحيها ومن الموصل وملحقاتها ومن ديار بكر والرها وحمص والنبك والقريتين وحماة، مضابط وتقارير الى السيد ديونيسيوس ميخائيل جروة مطران حلب، وتوسلوا اليه بألحاح ان يشخص الى دير الزعفران ويتسلّم عكاز البطريركية الانطاكية، فغادر حلب ابرشيته في 24 ايلول 1781 وانطلق الى ماردين مع كهنته واعيان الشعب. وفي 22 كانون الثاني 1782 جرت حفلة التنصيب البطريركي بأبّهة عظيمة في كنيسة الزعفران وحضرها اساقفة السريان والأرمن والكلدان والمرسلون اللاتين وجماهير غفيرة من الشعب، وما ان قبض البطريرك اغناطيوس ميخائيل الثالث على عكاز الرئاسة حتى القى خطبة بليغة اثبت فيها وجوب الاتحاد في كنيسة السيد المسيح الواحدة الرسولية المقدسة[13].
وفي هذه الاثناء كان يلاقي البطريرك الجديد معاناة مع المطران متى ثعلب، حيث اخذ هذا المطران اربعة كهنة ورسمهم مطارين في طور عبدين ، وهم بدورهم اقاموه بطريركا دخيلا ضد البطريرك ميخائيل جروة، ومنذئذ شرع يعادي البطريرك ميخائيل ويحرض الاكراد لقتله، وفي هذه الاثناء حصل متى امر سلطاني بتأييده وشرع يضطهد الكاثوليك ويلاحقهم ويزعجهم، وبلغ به الامر الى اهانة البطريرك ميخائيل جروة، ونفيَّ البطريرك جروة الى الموصل ووصلها منهوك القوى مصابًا بحمة شديدة، وظل في الموصل 62 يوما وبعدها سافر البطريرك الى بغداد لان البطريرك الدخيل حصل على فرمانات بالرشاوي تفيد بنفي البطريرك جروة مع عدد من اعوانه[14].
في 30 اذار 1784 وصل البطريرك ميخائيل من بلاد مابين النهرين والعراق الى قرية بيت شباب بلبنان، وسكن ديرًا يقال له دير مار انطونيوس النبعازاء اربعة اشهر، ومن ثم استاجر بيتًا هو وحاشيته اربعة اشهر ايضًا كان يفتش في اثنائها عن مكان يشتريه ويجعل فيه كرسيه البطريركي، وهذا مادونه البطريرك بخط يده ” بعد وصولي لجبل لبنان بحال فقريّة مملوءًا امراضًا من تعب الطريق وجروحا من ركوب الجمال، وبعد اقامتي في دير مار انطونيوس اربعة اشهر طننت اني استريح من اتعابي. ولكني نظرت المر بخلاف املي لأني من اول يوم دخولي…..”[15].
ولمّا عرف بطريك الارومن باسيليوس بطرس الرابع بمجيء البطريرك ميخائيل الى لبنان، دعاه ليزور دير بزمار، فلبّى البطريرك ميخائيل في تشرين الثاني 1784 دعوة اخيه وصديقه المغبوط وانطلق الى زيارته، وكتب البطريرك ميخائيل بهذا الصدد ” ولمّا كنا في بيت شباب حضر الينا اخينا بطريك الأرمن …. فزرناه ستة ايام في دير بزمار وزرنا رهبانه في دير الكريم خمسة عشر يوما، وفي مسيرنا لنواحيهم حصّلنا محلا اسمه الشرفة …. فأستاجرناه لمدة سنة كاملة وانتقلنا اليه… فسميناه سيدة النجاة….”[16]. وفي اثناء زيارة البطريرك ميخائيل لبطريرك الأرمن حضر البطريرك اسطفان الدويهي وعانقه معانقة اخوية وحياه تحية السلام.
بعدما قام البطريرك ميخائيل في الشرفة سنة وتسعة شهور، صمم على مشترى المحل بما يتبعه، والمكان كان يشمل يومئذ غرفتين فقط، ولازالتا الى اليوم شاهدتين. وتم البيع في 15 ايلول 1786 بمبلغ الفين وخمسمائة غرش، وقد تم البيع والشراء بموجب حجة شرعية حررها الشماس جبرائيل جبارة والقس سمعان صباغ ملكي بحضور رهبان الأرمن الكريميين ورئيسهم الاب يوحنا والشيخ نوفل الخازن واخرين من درعون. وأيّد تلك الحجة بتوقيعه البطريرك الماروني يوسف اسطفان والمطران يوحنا الحلو والمطران يوسف نجيم والأم محبة رئيسة دير ماريوسف الحصن، وهي شقيقة ابي فارس الشنيعي بائع الشرفة، وكذلك اشترى البطريرك اضافة للغرفتين الحرش والبور والكرم الكبير والتوت … بمبلغ ثلاثمئة واثنين وثلاثين غرشا، ومجموع المشترى بلغت قيمته 2632 غرشًا، تبرع منها الشيخ ابو فارس بمبلغ 132 غرشًا.
وفي 22 ايلول 1786 اعاد البطريرك الماروني يوسف اسطفان حجّة مشترى الشرفة موقعة بأمضائه وخاتمه الى البطريرك ميخائيل، وكتب اليه يقول ” … علّمنا على الحجّة وختمناها وهي واصلة. ان شاء الله تعالى يكون موضع مبارك عليكم وتشوفوا كل خير ونقّبل اياديكم”[17]. وهكذا بدأت التهاني ترد للبطريرك بمشترى الشرفة ومن بين المهنئين بطريرك الروم الملكيين وبطريرك الأرمن ومن رؤساء الاديار ومشايخ ال خازن.
ما كاد ينتهي البطريرك ميخائيل المغبوط من مشترى الشرفة واطلاقه عليها اسم “سيدة النجاة” و ” دير الكرسي البطريركي “، ورفع عريضة الى قداسة البابا بيوس السادس يبشره بمشتراه هذا، ويتوسل الى قداسته ليشمل هذا الدير بنظره ويتخذه تحت حمايته. ويصدر امره السامي ليكون هذا المكان المقر البطريركي للبطريرك ولخلفاءه من بعده. وبعدها كتب رسالة الى مجمع العقيد والايمان بتاريخ 30 ايلول 1786 يخبرهم بالامر وهذا نصها : ” بعد تقدمة مايليق من الاكرام لنيافتكم. سبقنا بعرضنا على مجمعكم المقدس بأن ثمن شرفة درعون يساوي سبعة اكياس، والان نفيد نيافتكم اننا في 22 ايلول من هذه السنة اشترينا المحل مع ارزاقه على اسم الكرسي الانطاكي لطائفة السريان الكاثوليك. وثمنه 2632 غرشًا، وقد قبضنا من هذا المبلغ 1000 غرش من جانب الشيخ غندور الخوري، عن نفس والده المرحوم سعد الخوري. وتقسيط باقي الثمن الى سنتين. اما بشأن اقامتنا في دير مار افرام الرغم فنقول:-
- ان اقامتنا هناك تحرمنا اسعافات جمة فلو اقمنا فيه مثلا لما نلنا الالف غرش المذكورة.
- تعوّد حاكم ناحية دير مار افرام ان يسكن في الدير متى ما شاء واراد. ولا يمكننا منعه.
- ان دير الرغم مختص بالرهبان فأذا تحملنا اثقالهم حلَّ بنا ما حلَّ بأخوتنا الأرمن الذين سكن اول بطاركتهم عند رهبانهم في دير الكريم ثم التزموا اخيرا ان يشتروا دير بزمار…………. فنرغب من نيافتكم ان تبلوا هذا الدير تحت رعايتكم….”[18].
سُرّ الكاردينال لينورد انطونلي رئيس مجمع بروبغندا ببشرى البطريرك الانطاكي فكتب اليه هذا الجواب معربًا عن فرحه ” غبطة السيّد اغناطيوس ميخائيل جروة بطريرك السريان الانطاكي، خظينا ببشرى غبطتك وعرفنا انك بأسعاف الشيخ غندور الخوري قد اشتريت محلاً في درعون واطلقت عليه اسم ” القديسة مريم سيدة النجاة” حيث اقمت كرسيك الانطاكي، وكيما يبقى الدير مقرًا لك ولخلفاءك من بعدك ولا تتبدد موارده فقد منحك سيدنا البابا براءة ارتضى بموجبها ان يتقبَّل الدير المشار اليه تحت حماية الكرسي الرسولي ومجمع نشر الايمام المقدس، ويمنع منعًا باتًا بيع الدير واملاكه في الزمن الحاضر والمستقبل. وذلك طبقا للبراءة الرسولية الواصلة الى غبطتك. وقد وجه اليك المجمع المقدس لأجل ذلك اسعافًا معتبرًا قدره خمسة الاف سكوت روماني…..”[19].
اما براءة الحبر الروماني فهي مصونة في دير الشرفة بمجالي الاحترام والاجلال بنصها اللاتيني وترجمتها الى العربية وهي :
” البابا بيوس السادس للذكر المخلّد
ان اخوتنا الموقّرين كرادلة الكنيسة الرومانية المقدسة المفوّض اليهم أمر انتشار الايمان المقدس عرضوا علينا بواسطة ولدنا الحبيب المونسنيور اسطفان بورجيا كاتم الاسرار: أن الاخ الجليل اغناطيوس ميخائيل جروة بطريرك السريان الانطاكي قد اشترى وامتلك في درعون بجبل لبنان محلاً سماه دير سيدة النجاة. واستحدث فيه ابنية وطلب ان يكون هو وجميع ملحقاته وقفًا دائمًا ثابتًا له ولخلفاءه البطاركة. والتمس من المجمع ان ينوب منابه في التوسل الينا لنؤيد طلبه بسلطاننا. اما نحن فعلاوة على مزيد اعتبارنا لما لاقاه هذا البطريرك من الاضطهاد الشديد في سبيل الايمان الكاثوليكي فقد ازداد حبّنا له لسبب كرمه وفضله هذا التقوّي. وقبلنا توسله ببشاشة وترحاب. ونحن واثقون كل الثقة بأن ذلك يحمله على اعتبار كثرة تعطف الكرسي الرسولي عليه والتفاته اليه، ومن ثم نحكم بقوّة اسطرنا وبراءَتنا هذه ونريد ونأمر بسلطاننا الرسولي ان يكون دير سيدة النجاة مع جميع ممتلكاته من الارزاق الآن وفي مستقبل الزمان وقفًا مؤبدًا ثابتًا حسب نية البطريرك اغناطيوس ميخائيل. وان يكون تحت تصرفه وتصرف البطاركة خلفائه. ونضيف الى ذلك اننا قد قبلناه ونقبله تحت جماية كرسينا الرسولي ومجمع انتشار الايمان. وننهي بسلطاننا الرسوليّ كائنا من كان عن التعديّ عليه او التلاعب باملاكه او الاستبداد بشئ منه ذاته، ونمنع مطلقًا عن بيع او هبة شئ منه ومن خالف امرنا هذا سقط حالاً في الحرم المحفوظ حله لنا ولمن يخلفنا اذا كان المتعدي على قيد الحياة”[20].
وهكذا تلقى البطريرك الأنطاكي هذه البراءة النفيسة بكل ارتياح، فكتب الى الحبر الاعظم بتاريخ 1787 يقول :” ايها الاب الاقدس بعد الانحناء امام سدّتكم الرسولية بكل توقير واحترام والتماس بركتكم الرسولية….. ، اني بينما كنت في اشد الغموم والهموم وصلت اليّ بغتهً براءتكم الرسولية الحاوية ايات عطفكم الابوي الرسولي بقبول دير سيدة النجاة تحت كنفكم وحماية مجمعكم المقدس المعتني بنشر الايمان….”[21].
وكان البطريرك جروة يبني علاقات كثيرة، فنرى بأن البطريرك يرفع عريضة الى الامير يوسف شهاب سنة 1784 يخبره بقدومه الى بيت شباب ويسأله ان يشمله بعطفه ويحميه من خصومه، وقد لبى الامير طلب البطريرك وكتب اليه غير مرة يطمئن افكاره. ولما تولى الامير بشير الكبير شؤون الجبل اللبناني كتب اليه البطريرك ميخائيل يهنئه ويدعو له بالنصر والتأييد في مهمته. وقد وجه الامير عدة رسائل الى البطريرك جروة مؤسس دير الشرفة ومنها الرسالة المؤرخة 1788 على اثر توليه شؤون لبنان وهذا نصها ” الى حضرة عزيزنا بطرك السريان المكرم سلمه الله تعالى، اولا مزيد الاشواق الى رؤياكم في كل خير وعافية. وبعده نعرف محبتكم انه انعطف علينا خاطر سعادة افندينا ….. ، انشالله تعالى ماتشاهدون منا الا كل مايسركم. ولا تقطعوا اخباركم عنا….”[22]. وهكذا استمر البطريرك ميخائيل جروة بتوسيع علاقاته مع الحُكام ورجال السياسة، وايضا مع اخوته المسيحيين من الموارنة والأرمن والملكيين. واصبح دير الشرفة ديراً لتعليم الشمامسة الراغبين بالكهنوت من جميع ابرشيات بطريركية السريان الكاثوليك. وكان من المحسنين الى دير الشرفة ملك وملكة اسبانيا والدوقة مريم دي هرموزا الاسبانية وابنها الدون يوسف، وكان لهم علاقات مميزة مع البطريرك ميخائيل جرة بطريرك السريان الانطاكي.
الخاتمة
في نهاية عملنا هذا، نرى من خلال ما رواه التاريخ وما احتوته المخطوطات، أن السريان الكاثوليك تعرضوا الى الكثير من الاضطهادات والالام من جراء اتحادهم بالكنيسة الجامعة الكاثوليكية، ولكنهم ابوا إلا ان يواصلوا مسيرة الاتحاد هذه، وكانت الكنائس الشرقية تساند وتساعد وتدعم هذا الاتحاد، هذا ما لمسناه من بطاركة الكنيسة المارونية والكنيسة الارمنية.
وكان لبطاركة السريان دور كبير في انعاش الطائفة، وخصوصا البطريرك ميخائيل جروة، الذي تحّمل الكثير من اجل الاتحاد مع روما، وكانت كنيسة روما تعبر عن احترامها لهذا البطريرك من خلال رسائلها ودعمها له من الناحية المادية وايضا من خلال البراءة الرسولية التي حصل عليها البطريرك جروة. وكان لم توفيَّ البطريرك جروة حتى كتب البابا بيوس السادس رسالة بين عمق محبته واحترامه لهذا البطريرك.
اليوم نجد في دير الشرفة منارة للسريان الكاثوليك لما يحويه هذا الدير من كنوز واسرار مخبأ بين زواياه، وهذا ما دفع بالمستشرقين الى زيارته والتعمق في دراسة مخطوطاته وكتبه الثمينة والنفيسة التي تتمتع بها مكتبته، وعقد في الشرفة عدة مجامع واعترفت روما بمجمع 1888.
الأب روني موميكا
——————————————————————————————————————————————————————————————————–
- المصادر
- اسحق ارملة، نشره الخور اسقف بهنام هندو، تاريخ الكنيسة السريانية، الجزء الثاني، ” سلسلة تاريخ السريان”، بيث زابداي – ازخ، لبنان 1996.
- اسحق ارملة السرياني، تاريخ دير سيدة النجاة اي دير الشرفة، مطبعة الاباء المرسلين اللبنانيين، جونيه – لبنان، 1946.
- أغناطيوس انطوان الثاني حايك، علاقات كنيسة السريان اليعاقبة مع الكرسي الرسولي من 1143 – 1656، طبعة اولى، مطابع حبيب اخوان، المكلس.
- فيليب دي طرازي، اصدق ما كان عن تاريخ السريان في لبنان وصفحة من اخبار السريان، المجلد الاول، مطبعة جوزيف سليم صقلي، بيروت – 1948.
- فيليب دي طرازي، اصدق ما كان عن تاريخ السريان في لبنان وصفحة من اخبار السريان، المجلد الثاني، مطبعة جوزيف سليم صقلي، بيروت – 1948.
- المراجع
- البير ابونا، تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية، الجزء الثالث، ” سلسلة تاريخ الكنيسة”، طبعة ثانية، دار المشرق – بيروت 2003.
- ميشيل يتيم، اغناطيوس ديك، تاريخ الكنائس الشرقية، المكتبة البوليسة، الطبعة الثالثة، جونيه – لبنان ، 1999.
——————————————————————————————————————————————————————————————————–
[1] – البير ابونا، تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية، ج3، ” سلسلة تاريخ الكنيسة”، دار المشرق – بيروت 2003، ط2، ص178.
[2] – اسحق ارملة، نشره الخور اسقف بهنام هندو، تاريخ الكنيسة السريانية، ج2، ” سلسلة تاريخ السريان”، بيث زابداي – ازخ، لبنان، ص 420.
[3][3] – ميشيل يتيم، اغناطيوس ديك، تاريخ الكنائس الشرقية، المكتبة البوليسة، ط3، جونيه – لبنان ، 1999، ص 341.
[4] – البير ابونا، تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية، ج3، ” سلسلة تاريخ الكنيسة”، دار المشرق – بيروت 2003، ط2، ص179.”بتصرف”.
[5] – فيليب دي طرازي، اصدق ما كان عن تاريخ السريان في لبنان وصفحة من اخبار السريان، المجلد الاول، مطبعة جوزيف سليم صقلي، بيروت – 1948، ص312.
[6] – المرجع السابق، فيليب دي طرازي، 313.
[7] – فيليب دي طرازي، اصدق ما كان … ص314 – 315.
[8] – هذا المفريان الجليل ارسله مار اغناطيوس اندراوس البطريرك الأنطاكي الى روما فتلقى العلوم في مدرسة بروبغندا، وعلى اثر انتهاء دروسه رجع الى لبنان ومكث سنتين في قنوبين، ورقاه البطريرك الدويهي عام 1672 الى الرتبة الكهنوتية، وبعدها رقاه البطريرك اغناطيوس بطرس السادس سنة 1682 الى الرتبة الأسقية، وفي سنة 1693 رقاه الى الرتبة المفريانية.
[9] – فيليب دي طرازي، ص 317.
[10] – فيليب دي طرازي، ص 320.
[11] – اسحق ارملة السرياني، تاريخ دير سيدة النجاة اي دير الشرفة، مطبعة الاباء المرسلين اللبنانيين، جونيه – لبنان، 1946، ص 11-15. بتصرف.
[12] – البير ابونا، تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية، ج3، ” سلسلة تاريخ الكنيسة”، دار المشرق – بيروت 2003، ط2، ص268.
[13] – فيليب دي طرازي، اصدق ما كان عن تاريخ السريان في لبنان وصفحة من اخبار السريان، المجلد الاول، مطبعة جوزيف سليم صقلي، بيروت – 1948، ص330.
[14] – البير ابونا، تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية، ج3، ” سلسلة تاريخ الكنيسة”، دار المشرق – بيروت 2003، ط2، ص269.
[15] فيليب دي طرازي، اصدق ما كان …، ص274.
[16] فيليب دي طرازي، ص 274.
[17] فيليب دي طرازي، اصدق ما كان…، ص 276.
[18] – اسحق ارملة السرياني، تاريخ دير سيدة النجاة اي دير الشرفة، مطبعة الاباء المرسلين اللبنانيين، جونيه – لبنان، 1946، ص63.
[19] – المصدر السابق، اسحق ارملة السرياني، ص 65. ” نقل بأمانة”.
[20] – المصدر السابق، اسحق ارملة السرياني، ص 66.
[21] – المصدر السابق، اسحق ارملة السرياني، ص 69.
[22] – المصدر السابق، اسحق ارملة السرياني، ص 71.
المقالات المنشورة على صفحات المجلّة تُعبّر عن آراء كتّابها، لا عن رأي المجلّة.
مكتبة الفيديو
- الطوباوي مار فلابيانوس ميخائيل ملكي28 أغسطس، 2019
- حكاية القديس يوحنا الحبيب8 مايو، 2019
- سمعان الشيخ1 فبراير، 2019
- قصة القديس يوحنا الدمشقي4 ديسمبر، 2018
- الشهيد الطوباوي مار فلابيانوس27 أغسطس، 2018
أحدث المقالات
- من كتاب العمر لو حكىفي غير مصنف10 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من كلمات البابا فرنسيس للكهنة في استقباله تلامذة المعهد الكهنوتي الفرنسي في روما8 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- تأمّل – لأجل كلمتكفي تأملات4 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من تحسب نفسك؟في تأملات1 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- اليوبيل الذهبي في العمل الرسولي للمطران مار يوحنّا جهاد بطّاح28 مايو، 2021لا توجد تعليقات
- غبطة أبينا البطريرك يحتفل بالقداس الإلهي ويرسم شمّاسين جديدين (الدرجات الصغرى)، حلب، سوريا22 مايو، 2021لا توجد تعليقات
أحدث التعليقات
- Rasha على فلسفة التجلي
- فؤاد نعمة على لمحة عن دير الشرفة
- حيدرعواد على لماذا اختار النبي ايليا 12 حجراً وقال استجبني يارب؟
- fr. daniel على سدرو الاحد الرابع بعد العنصرة
- الشماس موريس خوري على نصلي لأجل آباء سينودس أساقفة كنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية
التقويم
ن | ث | أرب | خ | ج | س | د |
---|---|---|---|---|---|---|
« يونيو | ||||||
1 | ||||||
2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 |
9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 |
16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 |
23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 |
30 | 31 |