من كتاب العمر لو حكى
إكليريكيًّا في دير الشّرفة والسّيامة الشّمّاسيّة (1983 – 1988 )
وأخيرًا وبعد تأخيرٍ وتأجيلٍ دخلتُ إكليريكيّة دير الشّرفة الكبرى في شهر تشرين الأوّل سنة 1983 ، وكنتُ أحمل في يدي كتاب قبولٍ وتزكية من حضرة الأب جورج مصري رئيس الدّير السّابق (وثيقة رقم 5). وعندما وصلتُ استقبلني الأب يوسف ملكي (المطران مار فلابيانوس اليوم) وما زلتُ أذكر أنّه طلبَ إليّ أن أسجّل في الجامعة ضمن القسم الفرنسيّ كما نصح لي بتقوية لغتي الفرنسيّة، وبالفعل بدأتُ أتلقّى دروسًا بالفرنسيّة مع طاّب الصفّ التّاسع، وكان الأب ملكي هو معلّم تلك المادّة كانَ للأب جبرائيل كاتو رحمه الله دورًا هامًّا وفضاً كبيرًا في اهتمامي بتعلّم الفرنسيّة، فقد كان يحدّثني بها دائمًا، ممّا جعلني أحبّها. كما علمّنا الأب كاتو اللغةَ السّريانيّة وكان مرشدًا روحيًّا لجميع الطلبة الإكليريكيّن. كنّا نلجأ إليه كلّما شعرنا بحاجةٍ إلى استرشاده، فيرشدنا بوافر روحانيّته وغزير حلمه . أذكر من طلاّب السّنة الأولى الذين دخلوا الدّير معي كلاًّ من بسّام زازا الذي أصبح كاهنًا سريانيًّا ثُمَّ راهبًا فرنسيسكانيًّا في ما بعد، وبيير جزماتي الذي رُسم كاهنًا على الطّقس البيزنطيّ. كنّا ثلاثتنا من أبرشيّة دمشق. فأمّا من بين الطلاّب الذي كانوا في الدّير في تلك السّنة فأذكر مع حفظ الألقاب كلاًّ من الإخوة منير سقّال وجورج صابونجي ورزّوق حنّوش وجميعهم اليوم كهنة في أبرشيّة حلب. وأيضًا جورج خوري وإيلي شمّاس ويونس يونس من بيروت الذين تركوا الدّير معًا. وكان هذا الحدث من أقسى ما تلقّيتُ في الإكليريكيّة، ولم أستطعْ النّوم ليلتها، فقد كانت تجمعني بهم صداقة متينة، وكانَ زمنُ الفصح. وأذكر أيضًا نصري سلمو الذي ترك الإكليريكيّة والكهنوت، وجوزيف شمعي (المدبّر البطريركيّ على أبرشيّة الحسكة اليوم)، وأنطون حمزو (كاهن رعيّة زحلة)، وإيلي حمزو من بيروت، وجورج عبد الصّمد (رُسمَ كاهنًا متزوّجًا في أبرشيّة حمص)، وصبحي يونان من الحسكة (رحمه الله). بعدَ تلك السّنة جاء العديد من الطّلبة الإكليريكيّة، أذكر منهم طوني ناصيف (مطران أبرشيّة كندا) وإبراهيم صبحا وكلاهما من بيروت، ونزار سمعان (مطران حدياب في العراق) وإدريس حنّا (كاهن في السويد( وخالد كرّومي (كاهن في كندا) وفارس تمس وعامر وهيثم وخليل وشمعون وجميعهم من العراق. كما أذكر جاك مراد (راهب دير مار موسى الحبشيّ وكاهنًا في العراق) من حلب. كان الأب يوسف ملكي رئيسًا لدير الشّرفة طوال فترة حياتي الإكليريكيّة، فأمّا مدراء الإكليريكيّة فكان أوّلهم الأب أنطون حمزو ثُمَّ الأب جوزيف شمعي من بعده. كنتُ أستصعب الصّلاة باللغة السّريانيّة بالرّغم من محبّتي الشّديدة للغة الآباء والأجداد، وقد كنت أرى أن نتوقّف عن الدّراسة الجامعيّة سنةً كاملةً لتعلّمها بحيث نستطيع الصّلاة بها بفهمٍ أعمق واستمتاع روحيّ. فأمّا الدّراسة اللاهوتيّة في جامعة الرّوح القدس في الكسليك فكانت بالنسّبة إليّ متعةً لا تضُاهيها متعة أخرى، وهذا يعود إلى عطشي الدّائم إلى العلم وخاصّة دراسة الفلسفة واللاهوت، ومن حسن حظّي أنّي وقعتُ على أساتذة لاهوتيّن كبار منهم الأبّاتي بطرس قزّي والأباّتي يوحنّا ثابت والأب يوسف مونّس والأب عبدو بدويّ والحبيس يوحنّا الخوند والأب أوغسطين مهنّا والأب أيّوب شهوان وغيرهم. كما تعلمّتُ على يد عددٍ من الرّاهبات منهنّ الأخت روز تريز دمّر والأخت مرسيل هدايا. كانت الحياةُ الدّراسيّة في الجامعة والدّير ممتعة لكنّها كانت تنقطع بن الحين والآخر بسبب الحرب التي كانت رحاها ما تزال تدور في لبنان. أذكرُ أنّه في إحدى السّنوات سقطت قذيفة في الجامعة وأخرى في دير الشّرفة ومن لطفِ الله أنّ أحدًا لم يصب بأذىً. إنّ القذيفة التي أصابت دير الشّرفة سقطت بالقرب من غرفة الأب جبرائيل كاتو الذي كان لحسنِ الحظّ خارج الدّير وقتها ممّا حدا بالسّلطة الكنسيّة إلى إرسال الشّمامسة إلى بيوتهم، بالرّغم من وقوع الامتحانات آنذاك، لكنّنا تقدّمنا إليها بعد عودتنا من سفرتنا التي دامت شهرًا كاملاً. في الدّير نلتُ الدّرجات الشمّاسيّة الصّغرى، مْزَمْرونو (المرنّم) وقورويو (القارئ) في السّنة الثاّنية، وهوفذياقون (الرّسائليّ) في السّنة الرّابعة بوضع يد المثلّث الرّحمات البطريرك مار إغناطيوس أنطون الثاّني حايك. فأمّا رسامتي مْشَمشونو (شمّاس) وهي أوائل الرّسامات الكهنوتيّة الكُبرى (شمّاس، كاهن، أسقف) فآثرتُ أن أنالها في الشّام حيث يستطيع المشاركة والحضور أكبر عددٍ ممكن من الأهل والأقرباء والأصدقاء، واعتبرتها كحفلة العرس لعريس الكنيسة. وكنتُ كلّما سُألت ماذا تريد من هديّة أجبتُ: وردًا، أريدُ وردًا. وفي الحقيقة كنتُ أتمنّى وأرغب في أن أبقى شمّاسًا جميع أيّام حياتي، إلا أنّ الحاجة الماسّة إلى الكهنة جعلتني أقتبل درجة الكهنوت بعد ثلاث سنوات من الخدمة الشمّاسيّة. لا بُدَّ لي هنا من التنّويه إلى أنّ لكلّ درجةٍ من الدّرجات الكهنوتيّة الكبرى دعوة خاصّة، فهناك مَن كان مدعوًّا إلى أن يكونَ شمّاسًا كمار أفرام السّريانيّ كنّارة الرّوح القدس وشمس السّريان، ومار فرنسيس. ومنهم مَن يدُعى ليكون كاهنًا إلى الأبد على رتبة ملكيصادق، فثمّة الكثير من الملافنة والقدّيسين الكهنة. فأمّا الدّرجة الأسقفيّة وفيها تمام الكهنوت فهي لخدمة الكهنة ورئاسة الكنيسة وتحتاج إلى حسن تدبيرٍ ودراسة وسمعة حسنة وخبرة طويلة في إدارة شؤون الرّعايا. وبالنسّبة إلى بقيّة الرّتب كالخورأسقفيّة والبطريركيّة فهي رتب إداريّة تتعلّق بالمنصب القانونيّ. في السّابع من تشرين الأوّل سنة 1988 وفي عيد الورديّة المقدّسة نلتُ السّيامة الشمّاسيّة (الإنجيليّة) في دمشق عن يد المثلّث الرّحمات المطران مار أسطاثيوس يوسف المنيّر، وكانَ ذلك في كاتدرائيّة مار بولس في باب شرقي وبحضور عدد كبير من الآباء الكهنة الأجلاّء وإخوتي الشّمامسة الأكارم وإخوتي وأخواتي الرّهبان والرّاهبات الأفاضل، وجمعٌ غفير من الأهل والأقرباء والأصدقاء وإخوتي من جميع الأخويّات والمؤسّسات والجمعيّات الذين عملتُ معهم، كما حضرها عددٌ من أهالي درعون وحريصا في لبنان. كانَ عرّابي في الرّسامة الأب منير سقّال، واتّخذتُ شعارًا لي «أنا بينكم كالذي يخدم » الذي احتفظتُ به شعارًا لكهنوتي وأسقفيّتي. فأمّا العمل الرّسوليّ فقد تابعتُه في لبنان، فعملتُ مع الحركة الرّسوليّة المريميّة في درعون، وقمنا بعملٍ مسرحيّ في مناسبة أحد الفصح. وما زال الذين حضروا ذاك العمل يذكرونه حتّى اليوم. أذكرُ حينها أن أحد أبناء درعون قال لي: شمّاس، لقد قمتم بعملٍ رائع، ففي هذا العمل جمعتَ الضّيعة بأكملها. وفعلاً فقد شارك في العمل عدّة حركات رسوليّة من المنطقة المحيطة. خلال فترة إقامتي في دير الشّرفة، أسّستُ مع بعض الشّبيبة، شكري أبي سعد وميرا سامة وفيفيان باسيل وبمساعدة الأخت رشيدة معلولي من راهبات القلبين الأقدسين، جماعة إيمان ونور فرقة مار بولس لدى الآباء البولسيّين في حريصا. وكانت الاجتماعات تقع يوم الأحد. وفي يومٍ من تلك الآحاد دخلتُ غرفة الأب الريسّ يوسف ملكي وطلبتُ إليه أن يسمح لي المشاركة في الاجتماع وقلتُ له مباشرةً: أستطيع يا أبونا أن أكذب عليك وأقول لك بأنّي ذاهبٌ لزيارة أقربائي فهذا وقت فرصتي ومن حقّي أن أزور فيه من أشاء، لكنّي أخبرك برغبتي في المشاركة بعملٍ رسوليّ فإذا شئتَ أن تمنعني عن ذلك فلعلّ التحاقي بالإكليريكيّة كان خطأً، فقد كرّستُ حياتي للعملِ الرّسوليّ (مع العلم بأنَّ ثمّة قرارًا أصدره غبطة البطريرك آنذاك في منع طلبة الإكليريكيّة من الاشتراك في الأعمال الرّسوليّة قبل سيامتهم الشمّاسيّة). وقفَ رئيسُ الدّير الأب يوسف ملكي أمام إصراري موقفًا أبويًّا متفهّمًا فأذن لي بذلك. لا بُدَّ لي هنا من التنويه بسماحة الأب يوسف الذي تحمّل منّي الكثير فقد كنتُ دعوةً صعبة المراس، لكنّه كانَ يحبّني والمحبّة بيننا أزهرت صداقة نمت وما زالت مستمرّة حتّى اليوم، وهو بالذّات من شجّعني على تدوين هذه الوثيقة قائلاً: لو كتبَ كلُّ كاهنٍ وأسقفٍ سيرته بيده لكنّا حفظنا تاريخ كنيستنا. عملتُ أيضًا فترة من الفترات مع حركة مار شربل التي أسّسها الأب منير سقّال سنة 1979 (كان شمّاسًا آنذاك)، وهي حركة دينيّة كشفيّة تجتمع أيّام الآحاد وتشترك بالقدّاس الإلهيّ الذي يُعتبر من أركان الحركة الأساسيّة. وبعد القدّاس يُلقى التّعليم المسيحيّ على الأطفال المنتسبين. ولعلّ هذه الحركة أن تكون من أنجح الحركات الرّسوليّة التي عملتُ فيها فإنّ المسؤول الأوّل وقبل تقديم استقالته، يبدأ بتهيئة أحد الأعضاء الرّاغبن في ذلك ليتسلّم مكانه مستعدًّا، كما أنّه لا يغادر الحركة نهائيًّا بل يستمرّ بدعمها.
المقالات المنشورة على صفحات المجلّة تُعبّر عن آراء كتّابها، لا عن رأي المجلّة.
مكتبة الفيديو
- الطوباوي مار فلابيانوس ميخائيل ملكي28 أغسطس، 2019
- حكاية القديس يوحنا الحبيب8 مايو، 2019
- سمعان الشيخ1 فبراير، 2019
- قصة القديس يوحنا الدمشقي4 ديسمبر، 2018
- الشهيد الطوباوي مار فلابيانوس27 أغسطس، 2018
أحدث المقالات
- من كتاب العمر لو حكىفي غير مصنف10 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من كلمات البابا فرنسيس للكهنة في استقباله تلامذة المعهد الكهنوتي الفرنسي في روما8 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- تأمّل – لأجل كلمتكفي تأملات4 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من تحسب نفسك؟في تأملات1 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- اليوبيل الذهبي في العمل الرسولي للمطران مار يوحنّا جهاد بطّاح28 مايو، 2021لا توجد تعليقات
- غبطة أبينا البطريرك يحتفل بالقداس الإلهي ويرسم شمّاسين جديدين (الدرجات الصغرى)، حلب، سوريا22 مايو، 2021لا توجد تعليقات
أحدث التعليقات
- Rasha على فلسفة التجلي
- فؤاد نعمة على لمحة عن دير الشرفة
- حيدرعواد على لماذا اختار النبي ايليا 12 حجراً وقال استجبني يارب؟
- fr. daniel على سدرو الاحد الرابع بعد العنصرة
- الشماس موريس خوري على نصلي لأجل آباء سينودس أساقفة كنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية
التقويم
ن | ث | أرب | خ | ج | س | د |
---|---|---|---|---|---|---|
« يونيو | ||||||
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | |
7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 |
14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 |
21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 |
28 | 29 | 30 | 31 |