في الإرشاد الروحي

النضوج الضروري

جاءتِ الملاحظةُ التالية, في دراسةٍ عمليّة, تناولت موضوع الإرشاد الروحيّ, وعلاقَتهُ بعلوم النفس:

((قد يَحدثُ لبعض الكهنة أن يَشعروا بعدم الارتياح في تعاملهم مع الإنسان الآخر, في علاقتهم اليوميّة مع محيطِهم, ولا يطمئنّون ما لم يُحوِّلوا الآخرَ, إلى كائنٍ موجَّهٍ ومَقودٍ. إنّ جهلهم لمبادئ السلوك في النفس وفي ذواتهم, وعند طالبي الإرشاد, قد يتسَّبب بكوارث حقيقيّة, لا يمكن تفاديها عند اكتشافها, لا سيّما إذا ما مرَّ عليها الزمن.

وهنا, يُمكننا التأكيد أنّ المرشدين الروحيّين, بمقدار ما يكونون ناضجين روحياً ونفسيّاً, بمقدار ذلك يكونون مُتَنَبِّهين لِما في أنفسهم من قُصورٍ وعجزٍ, أو من جراح في النفس, وبمقدار ذلك أيضاً, يكونون أهلاً لتجاوز العوائق التي ذكرناها. ولذلك, يترتَّبُ على المرشد, قبلَ القيام بالإرشاد, أن يكتسِبَ فضيلة الكُفرِ بالذات, وروحانيّةً أصليّة فائقة الطبيعة)).¹

على المرشد أن يتقبَّل, ويتبنّى قَلقَه الخاصّ مع عَواقبِه.

دعونا نوضِح أيضاً: أنّه لا يَحِقّ لأحدٍ أن يُسنِد إلى نفسه عَمَل المرشد والأب الروحيّ, ولا يحقُّ لأحد أن يحكُمَ على نفسه بامتلاكِ المؤهّلات الضروريّة للقيام بهذه المسؤوليّة. هذا ما شرحَهُ جيّداً جدّاً الراهبُ المتوحِّد, التابع لجماعة (( سيتو )) الرهبانيّة, قال:

((بمقدورِك أن تجعلَ على باب غُرفتكَ, أو على بطاقتكَ الخاصّة تعريفاً يدلُّ على أنّك معالج بالدَلك, أو محلِّلٌ نفسيّ. إنّما لا يصحُّ أن يُعرِّف أحدُنا بأنّه أبٌ روحيٌّ أو مرافق روحيٌّ. فهذان النمطان الأخيران من الإسعاف لا يخضعان لنظام سائر النشاطات الإنسانيّة. ولا تُعتبر مَهمّة الأب الروحيّ أو المرافق الروحيّ, مهمّةً, تضمَن حُسنَ ممارستِها شهادةٌ علميّةٌ عالية. والآن دعونا نُعِدِ الكرّةَ, فنقول: لا يُمكنُ لأحدٍ أن يُنصِّب نفسَه مرافقاً روحيّاً لواحد من الناس, ولا يحقُّ للمرافق الروحيّ أن يُعلِنَ لأحدٍ, قائلاً: أنتَ تلميذي. وحالةُ معلِّم المبتدئين نفسُها, في المؤسّسات الرهبانيّة, لا تخرُجُ عن هذه القاعدة: فمسؤوليَّتُهُ لا تفرِضُ عليه أن يكونَ مرافقاً روحياً للمبتدئ, بالمعنى الحصريّ. بل الطالبُ والمُتتلمذُ هما اللذان يَختاران مُعلِّمَهما الروحي. هذه قاعدةٌ مطلقةٌ. ولا يبدو لي أنّها تتحمَّلُ استثناءات)).²

كان تلاميذُ القدّيس أنطونيوس في مصر, يُعرِّفون الأب الروحيّ بأنَّه الرجلُ, الذي تمكَّن من تقبُّلِ اضطراباته النفسيّة, وتبنَّيها.لا يَظهَرُ الأب الروحيّ بمظهر الإنسان الكامل, من وُجهةِ الفضائل. وهو يَرفُضُ أن يُنسَبَ إليه الكمالُ. إنّه يُدرك ما في ذاته ويُدركُ أنّه ضعيف, ويعترف بسرعة عَطَبه. هو قد تقبَّل ما في داخله من تَناقضاتٍ, ويَعتبرُ نفسَه بائساً ومجروحاً في النفس والجسد.

إنّ الأبَ الروحيّ الصحيحَ قادرٌ على الاشتراك في متاعب واضطرابات ابنِهِ الروحيّ. لأنّه سبَقَ له أن سلَّم كرائبَه وإشكالاتهِ الخاصّة إلى آخر ( هو الله نفسه ). ما من خطرٍ أعظمُ من خطَرِ الأب الروحيّ, المصمِّمِ على أن يكون أباً, قبل أن يُمارسَ بُنُوَّتَهُ الخاصّة تجاه أبيه. لا أحد يستطيعُ أن يكون إنساناً صالحاً في المرتبة الأولى, مَا لَم يَرضَ قبلاً أن يكون إنساناً صالحاً في المرتبة الثانية, طَوَال زمنٍ غير يَسير.

من كتاب: حين يصبح الضعف طريقاً إلى القداسة, تأليف: أندريه دينيو, تعريب المطران: يوسف كلّاس, منشورات المطبعة البولسية – 2016